فصل: تفسير الآية رقم (144):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البحر المديد في تفسير القرآن المجيد (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (137- 139):

{إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آَمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلًا (137) بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (138) الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا (139)}
يقول الحقّ جلّ جلاله: {إن الذين آمنوا ثم كفروا} ثم تكرر منهم الإيمان والكفر، ثم أصروا على الكفر وهم المنافقون، {لم يكن الله ليغفر لهم}؛ لما سبق لهم من الشقاء، أو {إن الذين آمنوا} بموسى {ثم كفروا} بعبادة العجل {ثم آمنوا} حين تابوا {ثم كفروا} بعيسى {ثم ازدادوا كفرًا} بمحمد صلى الله عليه وسلم ن {لم يكن الله ليغفر لهم}، وهم اليهود، والأول أظهر، لأن الكلام بعده في المنافقين، فقال تعالى في شأنهم: {لم يكن الله ليغفر لهم ولا ليهديهم سبيلاً} أي: طريقاً توصلهم إلى الحق، إذ يُستبعد منهم أن يتوبوا، فإن قلوبهم أشربت الكفر، وبصائرهم عميت، لا ينفع علاجها، لا أنهم لو أخلصوا الإيمان لم ينفعهم، وقد يكون إضلالهم عقابًا لسوء أفعالهم.
ثم ذكر وعيدهم فقال: {بشر المنافقين بأن لهم عذابًا أليمًا}. وهم {الذين يتخذون الكافرين أولياء} أي: أحبابًا وأصدقاء {من دون المؤمنين}، وقد كان الكفار قبل ظهور الإسلام لهم الصولة والجاه، فطلب المنافقون أن ينالوا بولايتهم ومصادقتهم العزّ منهم، فردّ الله عليهم بقوله: {أيبتغون عندهم العزة} بولايتهم؟ {فإن العزة لله جميعًا} ولرسوله ولأوليائه، ولا عزة لغيره؛ إذ لا يعبأ بعزة لا تدوم ويعقبها الذل.
الإشارة: من كان ضعيفَ الاعتقاد في أهل الخصوصية، ضعيفَ التصديق، تراه تارة يدخل وتارة يخرج، وتارة يصدق وتارة ينكر، لا يُرجى فلاحُه في طريق الخصوص، فإن ضم إلى ذلك صحبة أهل الإنكار وولايتهم، فبشره بالخيبة والخسران، فإن تعزز بعزهم أعقبه الذل والهوان، والعياذ بالله من الخذلان، فالعز إنما يكون بعز التوحيد والإيمان، وعزة المعرفة والإحسان، وبصحبة أهل العرفان، الذين تعززوا بعز الرحمن، فمن تعزز بعز يفنى مات عزه، ومن تعزز بعز يبقى دام عزه، والشبكة التي يصطاد بها العزّ هو الذل لله، يظهره بين عباد الله. قال بعضهم: والله ما رأيت العز إلا في الذل. وقال الشاعر:
تَذَلَّل لمن تَهوَى لتكسِب عزَّةً ** فَكَم عِزَّةٍ قَد نَالَهَا المَرءُ بالدُّلِّ

وبالله التوفيق.

.تفسير الآيات (140- 141):

{وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آَيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا (140) الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللَّهِ قَالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ وَإِنْ كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ قَالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا (141)}
{وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الكتاب أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ الله يُكَفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلاَ تَقْعُدُواْ مَعَهُمْ حتى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذاً مِّثْلُهُمْ...}
قلت: {أن} مخفف: نافية، فاعل نزّل، و{يكفر} و{يُستهزأ}، حالان من الآيات، وضمير {معهم}: يعود على الكفار المفهوم من {يكفر}، وضمير {غيره}؛ يعود على الكفر والاستهزاء، وهما شيء واحد.
يقول الحقّ جلّ جلاله: في التحذير من مجالسة أهل الكفر والمعاصي: {وقد نزل عليكم} يا معشر المسلمين في القرآن في سورة الأنعام، أنه {إذا سمعتم آيات الله} حال كونها {يُكفَر بها ويُستَهزأ بها فلا تقعدوا معهم} بل قوموا عنهم، إن لم تقدروا أن تنكروا عليهم، والآية التي في سورة الإنعام قوله تعالى: {وَإِذَا رَأَيْتَ الذين يَخُوضُونَ في آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حتى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ} [الأنعام: 68] الآية. فما داموا في الخوض فاعرضوا عنهم حتى يخوضوا في حديث غير الخوض، فإن جلستم معهم في حال الخوض فإنكم {إذًا مثلهم} في الإثم، إن لم ترضوا، أو في الكفر، إن رضيتم بخوضهم.
نزلت في قوم من المنافقين كانوا يجلسون إلى أحبار اليهود، فيسخرون من القرآن، ويكذبون به ويحرفونه، فنهى المسلمين عن مجالستهم، قال ابن عباس: ودخل في هذه الآية كُلُّ مُحدِث في الدين ومُبتدعٍ إلى يوم القيامةً. اهـ.
الإشارة: أولياء الله آيات من آيات الله: فمن استهزأ بهم فقد استوجب المقت من الله، وكل موطن يقع فيه الإنكار عليهم أو الغض من مرتبتهم، يجب الفرار منه، لأنه موطن الغضب ومحل الهلاك والعَطب، فإن لحوم الأولياء سموم قاتلة، واللعنة على من يقع فيهم حاصلة، فمن جلس مع أهل الخوض من غير عذر، كان من الخائضين، ومن فرّ منهم كان من الناجين، ومن أنكر على من يقع فيهم كان من المجاهدين. والله تعالى أعلم.
ثم ذكر وعيد الخائضين ومن رضي بخوضهم، فقال: {إِنَّ الله جَامِعُ المنافقين والكافرين فِي جَهَنَّمَ جَمِيعاً الذين يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِن كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِّنَ الله قالوا أَلَمْ نَكُنْ مَّعَكُمْ وَإِن كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ قالوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِّنَ المؤمنين فالله يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ القيامة وَلَن يَجْعَلَ الله لِلْكَافِرِينَ عَلَى المؤمنين سَبِيلاً}
قلت: {الذين}: صفة المنافقين، أو نصب على الذم، و{نستحوذ}: تغلب، استحوذ: غلب، جاء على أصله، ولم يُعلّ كاستعاذ والقياس: استحاذ، يستحيذ، كاستعاذ يستعيذ، لكنه صحح تنبيهًا على الأصل.
يقول الحقّ جلّ جلاله: {إن الله} سيجمع {المنافقين والكافرين}، أي: الخائضين والقاعدين معهم، {في جهنم جميعًا} خالدين فيها. {الذين يتربصون بكم} أي: ينتظرون بكم الدوائر، أي: ما يدور به الزمان والدهر عليكم، وهم المنافقون، {فإن كان لكم فتح من الله} كالنصر والغنيمة {قالوا} للمؤمنين: {ألم نكن معكم} على دينكم، فأعطونا مما غنمتم، {وإن كان للكافرين نصيب}؛ دولة أو ظهور على المسلمين، {قالوا} لهم: {ألم نستحوذ عليكم} أي: نغلبكم ونتمكن من قتلكم، وأبقينا عليكم فمنعناكم من قتل المسلمين لكم، بأن خذلناهم بتخييل ما ضعُفت به عزيمتهم عليكم، وتوانينا في مظاهرتهم عليكم، فأشركُونا مما أصبتم.
وإنما سمي ظفر المسلمين فتحًا، وظفر الكافرين نصيبًا؛ لخسة حظه، فإنه حظ دنياوي، استدراجًا ومكرًا، بخلاف ظفر المسلمين، فإنه إظهار الدين، وإعانة بالغنيمة للمسلمين.
{فالله يحكم بينهم يوم القيامة}؛ فيدخل أهل الحق الجنة، ويدخل أهل الخوض النار، {ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلاً} أي: حجة، أو غلبة في الدنيا والآخرة، وفيه دليل على عدم صحة ملك الكافر للمسلم، فيباع عليه إن اشتراه، ويفسخ نكاحه إن تزوج مسلمة. والله تعالى أعلم.
الإشارة: «المرء مع من أحب»؛ من أحبَّ قومًا حُشر معهم، فمن أحب أهل الخوض حُشر مع الخائضين، ومن أحب أهل الصفا حشر مع المخلصين، وإن كان مذبذبًا يميل مع كل ريح؛ حشر مع المخلصين، وهو من خف عقله وضعف يقينه، إن رأى بأهل النسبة من الفقراء عزًا ونصرًا وفتحًا انحاز إليهم، وقال: ألم نكن معكم، وإن رأى لأهل الإنكار من العوام صولة وغلبة رجع إليهم، وقال: ألم نستحوذ عليكم ونمنعكم من دعاء الصالحين عليكم، فما لهذه عند الله من خلاق. وفي الحديث: «ذو الوجهين لا يكون عند الله وجيهًا» فالله يحكم بينهم يوم القيامة، فيرفع أهل الصفا مع المقربين، ويسقط أهل الخوض مع الخائضين، وليس لأهل الخوض من أهل الإنكار سبيل ولا حجة على أهل الصفا من الأبرار، {إِنَّ اللهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَواْ وَّالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ} [النّحل: 128].

.تفسير الآيات (142- 143):

{إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا (142) مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَلَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا (143)}
قلت: جملة: {ولا يذكرون الله}؛ حال من واو {يُراءون}، وكذلك {مذبذبين} أي: يراءون حال كونهم غير ذاكرين مذبذبين، أو منصوب على الذم، والمذبذب المضطرب المتردد.
يقول الحقّ جلّ جلاله: {إن المنافقين يُخادعون الله} بإظهار الإيمان وإخفاء الكفر، {وهو خادعهم}، أي: مجازيهم على خداعهم؛ بأن يظهر لهم يوم القيامة، نورًا يمشون به على الصراط، كما يعطي المؤمنين، فإذا مضوا به طُفِئَ نورهم وبقي نور المؤمنين، فينادونهم: {انظُرُونَا نَقْتَبِس مِن نُّورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُواْ وَرَآءَكُمْ فَالْتَمِسُواْ نُورًا} [الحديد: 13]، فيتهافتون في النار، فسمي هذه العقوبة خداعًا تسمية للعقوبة باسم الذنب.
وكانوا {إذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى} أي: متثاقلين، لا يريدون بها وجه الله، فإن رءاهم أحد، صلوا، وإلاَّ انصرفوا، فلم يصلوا، {يُراءون} بأعمالهم {الناس} أي: المؤمنين، {ولا يذكرون الله إلا قليلاً}؛ لأن المرئي لا يذكر إلا بحرة الناس، وهو أقل أحواله، أو لا يذكرونه في صلاتهم إلا قليلاً، لأنهم لا يذكرون إلا التكبير والتسليم، وقال ابن عباس: إنما ذلك لأنهم يفعلونها رياءً وسمعةً، ولو أرادوا بذلك وجه الله تعالى لكان كثيرًا. وقال قتادة: إنما قل ذكرهم، لأنه لم يُقبل، فكل ما رُدَّ من العمل فهو قليل، وكل ما قُّبل فهو كثير.
وكانوا أيضًا {مذبذبين} أي: مترددين ومتحيرين بين الكفر والإيمان، {لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء} أي: لا صائرين إلى المؤمنين ولا إلى الكافرين. قال قتادة: ماهم بمؤمنين مخلصين، ولا مشركين مُصَرِّحين بالشرك، هكذا سبق في علم الله، {ومن يضلل الله فلن تجد له سبيلاً} أي: طريقًا إلى الهدى، ومثله قوله تعالى: {وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ اللهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِن نُّورٍ} [النور: 40].
الإشارة: كل من أحب أن يَرى الناسُ محاسنَ أعماله وأحواله، ففيه شعبة من النفاق وشعبة من الرياء، وعلامة المرائي: تزيين ظاهرة وتخريب باطنه، يتزين للناس بحسن أعماله وأحواله، يراقب الناس ولا يراقب الله، وكان بعضُ الحكماء يقول: يقول الله تعالى: «يا مُرائي: أمرُ من ترائى بيد من تعصيه» فمثل هذا أعماله كلها قليلة، ولو كثرت في الحس كالجبال الرواسي، وأعمال المخلصين كلها كثيرة ولو قلَّت في الحس، وأعمال المرائين كلها قليلة ولو كثرت في الحس. قال في القوت: وَصَفَ اللهُ تعالى ذكر المنافقين بالقلة، لكونه غير خاص، كما قيل في تفسير قوله تعالى: {ذِكْرًا كَثِيرًا} [الأحزَاب: 41] أي: خالصًا، فسمي الخالص كثيرًا. اهـ.
قولى تعالى: {مذبذبين بين ذلك}: هذه صفة أهل الدعوى، المستشرفين على الحقيقة بالعلم، ليسوا من الخصوص ولا من العموم، مترددين بين الفريقين، ومن يضلل الله عن طريق التحقيق، فلن تجد له سبيلاً.

.تفسير الآية رقم (144):

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا مُبِينًا (144)}
قلت: اتخذ، يتعدّى إلى مفعولين، و{من دون}: حال.
يقول الحقّ جلّ جلاله: {يا أيها الذين آمنوا} لا تتشبهوا بالمنافقين فتتخذوا {الكافرين أولياء} وأصدقاء {من المؤمنين}؛ لأن الله أعزكم بالإيمان والنصر، فلا تطلبوا العز من أحد سواه، {أتريدون أن تجعلوا لله عليكم سلطانًا مبينًا} أي: حجة واضحة على تعذيبكم وسببًا في عقابكم.
الإشارة: قد تقدم في كثير من الإشارات النهي عن موالاة أهل الإنكار على الأولياء، وعن مخالطة أهل الدنيا وصحبتهم، فإن ذلك حجة واضحة على الرجوع إليهم ومصانعتهم، وهو عين النفاق عند المخلصين. والله تعالى أعلم.

.تفسير الآيات (145- 147):

{إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا (145) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُولَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا (146) مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآَمَنْتُمْ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا (147)}
قلت: الدَّرَك والدَّرْك لغتان، كالظَّعَن والظَّعْن، والنَّهَر والنَّهْر، والنَّشَر والنَّشْر، وهي الطبقة السفلى، وسميت طبقاتهم دركات؛ لأنها مُتداركة متتابعة، وهي ضد الدرجات، فالدرجات للعلو، والدركات للسفل.
يقول الحقّ جلّ جلاله: {إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار} أي: في الطبقة السفلى في قَعر جهنم؛ لإنهم أخبث الكفرة، حيث ضموا إلى الكفر الاستهزاء بالإسلام وخداع المسلمين. قال ابن مسعود رضي الله عنه: (هم في توابيت من النار مقفلة عليهم في النار، مطبقة عليهم).
وعن ابن عمر رضي الله عنه: إن أشد الناس عذابًا يوم القيامة ثلاثة: المنافقون، وممن كفر من أصحاب المائدة، وآل فرعون لقوله: {إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار} وقال في أصحاب المائدة: {فَإِنْي أُعَذِبُهُ عَذَابًا لآَّ أُعَذِبُهُ أَحَدًا مِّنَ الْعَالمِينَ} [المَائدة: 115]. وقال: {ادْخِلُوَاْ ءَالَ فِرْعَوْنَ أَشَدَ الْعَذَابِ} [غافر: 46]، {ولن تجد لهم نصيرًا} يمنعهم من ذلك العذاب. {إلا الذين تابوا} عن النفاق {وأصلحوا} ما أفسدوا في سرائرهم وأعمالهم في حال النفاق، {واعتصموا بالله} أي: وثقوا به وتمسكوا به، دون أحد سواه، {وأخلصوا دينهم لله} لا يريدون بطاعته إلا وجه الله، ولا رياءً ولا سمعةً {فأولئك مع المؤمنين} في الدين. قال الفرَّاء: من المؤمنين، وقال العتبي: حاد عن كلامهم غيظًا عليهم، ولم يقل هم المؤمنون. اهـ. قلت: إنما قال: {مع المؤمنين} ولم يقل: منهم، لأن التخلص من النفاق صعب، ولا يكون من المؤمنين، حتى يتخلص من جميع شعبه، وهو عزيز، وقد قال عليه الصلاة والسلام: «ثَلاثٌ مَن كُنَّ فيه فهُوَ مُنَافقٌ، وإن صَامَ وصلَّى وزَعم أنه مُسلمٌ، من إذا حدَّثَ كَذَبَ، وإذَا وعَدَ أخلفَ، وإذا ائُتمِنَ خَانَ».
{وسوف يُؤت الله المؤمنين} المخلصين {أجرًا عظيمًا} فيساهُمونَهم فيه إن تابوا وأصلحوا، فإن الله غني عن عذابهم، ولذلك قال: {ما يفعل الله بعذابكم إن شكرتم وآمنتم} أي: لا حاجة له في عذابكم، فلا يُشفى به غيظًا ولا يدفع به ضررًا، أو يستجلب به نفعًا؛ لأنه غنيَّ عن المنافع، وإنما يعاقب المصر بكفره، لأن إصراره عليه كسوء المزاج يؤدي إلى مرض فإن زال بالإيمان والشكر، ونقَّى منه قلبه، تخلص من تبعته. وإنما قدم الشكر؛ لإن الناظر يدرك النعم أولاً فيشكر شكرًا مبهمًا، ثم يمعن النظر حتى يعرف المنعم فيؤمن به. قاله البيضاوي. وقال الثعلبي: فيه تقديم تأخير، أي إن آمنتم وشكرتم، لأن الشكر لا ينفع مع عدم الإيمان. {وكان الله شاكرًا} لأعمال عباده، يقبل اليسير ويعطي الكثير، {عليمًا} بحقيقة شكرهم وإيمانهم، ومقدار أعمالهم، فيضاعفها على قدر تخليصها. والله تعالى أعلم.
الإشارة: لا شيء أصعب على النفس من الإخلاص؛ كلما اجتهد العبد في قطع الرياء؛ نبت على لون آخر، فلا يتطهر العبد منها إلا بتحقيق الفناء والغيبة عن السوى بالكلية.
كما قال الششتري رضي الله عنه:
طهَّرَ العَينَ بالمَدامِعِ سَكبًا ** مِن شُهُودِ السَّوى تَزُل كلُّ عِلَّه

قال بعضهم: لا ينبت الإخلاص في القلب؛ حتى يَسقط من عين الناس، ويُسقط الناسَ من عينه.
والإخلاص من أعمال القلوب، فلا يطَّلع عليه إلا علآَّم الغيوب، فلا يجوز أن يحكم على أحد بالرياء بمجرد ما يرى عليه من الإظهار، وقد تدخل الرياء مع الإسرار، وتتخلص من القلب مع الإظهار، وفي الحكم: (ربما دخل الرياءُ عليك حيث لا ينظر الخلق إليك). فإذا تخلص العبد من دقائق الرياء، وأصلح ما بينه وبين الله واعتصم به دون شيء سواه، كان مع المخلصين المقربين؛ فيكون عمله موفورًا، وسعيه مشكورًا. وبالله التوفيق.
وقد تكلم في الإحياء على هذه الآية فقال: إنما كان المنافقون في الدرك الأسفل؛ لأنهم جحدوا بعد العلم، وإنما تضاعف عذاب العالم في معصيته؛ لأنه عَصَى عن علم. قلت: وافهم منه قوله صلى الله عليه وسلم في أبي طالب: «وَلَولاَ أنَا لَكَانَ فِي الدَّركِ الأسفلَ مِنَ النَّارِ» وذلك لاعراضه مع العلم. وقال في الإحياء أيضًا: شدَّد أمر المنافقين؛ لإن الكافر كفرَ وأظهَرَ، والمنافق كفر وستر، فكان ستره لكفره كفرًا آخر، لأنه استخف بنظر الله إلى قلبه، وعظَّم أمر المخلوقين. اهـ. والحاصل: أن التشديد في الرياء والنفاق؛ لِمَا في ذلك من تعظيم نظر الخلق على نظر الخالق، فكان أعظمَ من الكفر الصريح. اهـ. من الحاشية.